الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
فقد تلقت الأمة الإسلامية نبأ مقتل الأخت مروة الشربيني على يد حقود صليبي في "ألمانيا".
وفي ساحة "المحكمة" في ظل حالة من "الغيبوبة" المتعمدة من الشرطة التي أفاقت من غيبوبتها بسرعة البرق عندما حاول زوج المجني عليها أن يدافع عنها؛ فانطلقت رصاصتهم إليه لتقع به بين الحياة والموت!!
بينما يخرج الجاني من "الملحمة" و"المحكمة" وكأنه كان في نزهة!
ولا يُدرى هل ستضطر المحكمة التي سيحاكم أمامها إلى الشدة معه ولو من باب حفظ ماء الوجه أو من باب أنه أهان القضاء الألماني؟
أم سيستحضرون أن الجاني كان في حالة دفاع عن هوية "أوروبا"، وأن الفرق الوحيد بينه وبين الكثير منهم هو الجرأة لا أكثر ولا أقل؟!
وإذا كان ذلك القسيس الألماني الشهير لم يجد وسيلة يعبر بها عن رعبه من الاجتياح الإسلامي إلا بحرق نفسه؛ فإن هذا المجرم قد وجد وسيلة أخرى وهي قتل امرأة عزلاء كل ذنبها أنها صدَّقت أن في الغرب احترامًا لحقوق الإنسان؛ فأخذت بعض حقها على الورق، ولكنها دفعت حياتها ثمنـًا لهذا.
إن المجتمع الغربي عندما أصَّل لدعاوى الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية وغيرها؛ أصَّل لها على أساس علماني مشوب بخلفية نصرانية، وفي ظل سيطرة واقعية للغرب على مقاليد العالم، ولا يتقبل العالم الغربي أبدًا أن يتم توظيف أيًا من هذه النظم لنصرة أي مبدأ آخر؛ لا سيما الإسلام.
ومن ثمَّ تتصاعد هجماتهم على الحجاب والمحجبات في فرنسا وفي غيرها من البلاد الأوروبية، وعندما تكرم علينا "أوباما" بعدم معارضته للحجاب(1)، واضطر "ساركوزي" إلى موافقته سرعان ما عاد وأعلن عدم استعداد بلاده لتقبل المنقبات؛ مما فتح ملف الحجاب نفسه في فرنسا(2) لتستمر "الحملة الفرنسية" على الحجاب رغم المجاملة العارضة لحجاب "أوباما" الذي جاء هو الآخر كمجاملة عارضة للعالم الإسلامي.
إن الكراهية الغربية للحجاب هي بالتأكيد جزء من كراهيتهم العامة للإسلام؛ ولكن الحجاب يحظى بالدرجة القصوى من هذه الكراهية؛ فلماذا الحجاب؟!
لقد تساءلنا من قبل: لماذا ركزت طلائع التغريب جهودها على باب المرأة أكثر من غيره؟!
وجاءنا الجواب بلسان الحال والمقال: إن إفساد المرأة المسلمة إفساد للمجتمع الإسلامي بأسره.
وتساءلنا عن سر اهتمام الساسة الغربيين بمحاربة الحجاب في بلادهم؟
وجاء الجواب بلسان الحال والمقال: إن الحجاب هو الهدي الظاهر المميز تمامًا "للمسلمة"، والذي يعكس بدوره حجم تواجد المسلمين في المجتمعات الغربية.
ولكن اليوم ونحن أمام شاب يضيق على طفل يلعب بأرجوحة لكون أمه محجبة، ثم عندما تعاتبه يصفها بالإرهابية؛ لأنها محجبة، ثم تحصل على حكم بالغرامة عليه فيقطعها إربًا في ساحة المحكمة!
إن هذا السلوك العدواني البالغ القسوة والفظاظة يؤكد أن قضية الحجاب في العقل الأوروبي أعقد من ذلك، إنها قضية كراهية متأصلة في عموم الأوروبيين للحجاب.
والذي يبدو أنها تكرار لذلك الشعار الذي أطلقه قوم لوط من قبل: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ) (النمل:56).
إن الفرد الأوروبي ممزق الفكر في كل ما يتعلق بالكون والحياة؛ فهو لا يدري إلى أي الحضارات ينبغي أن ينتمي: إلى حضارة اليونان الذين سرق آباؤه حضارتهم؟!
أم إلى حضارة الرومان الوثنيين وولعهم بالنساء؟!
أم إلى حضارة النصرانية التي تقرر أن عدم الاقتراب من النساء أولى تحت أي مسمى وفي أي ظرف؟!
وفي ظل هذا التمزق انطلقت شرارة الدعوة إلى حرية المرأة، وسواء قادها اليهود ليفسدوا غيرهم من الأمم أو قادها أصحاب رؤوس الأموال؛ ليتمكنوا من إخراج المرأة للعمل لتوفير العمالة الرخيصة، فإن هذه الدعوة قد استمرت إلى أن حوَّلت المجتمع الغربي إلى غابة جنسية؛ العري هو شعارها الأول.
ولكن الإنسان الغربي ما يزال إنسانـًا، وما تزال بقايا من الفطرة السليمة في نفسه، ومن ثمَّ يشعر بتأنيب الضمير كلما تدبر في حاله، ورأى الأمور على ما هي عليه.
ومن ثمَّ يخجل العراة إذا وجدوا بينهم كاسيًا، وهذا لا يقتصر على الغرب، ولكنه يوجد لدى كل مجتمع منحرف عن الفطرة يريد أن يتخلص من وخز الضمير، وإذا نظرت إلى الطبقات الأكثر تأثرًا بالغرب في بلادنا - لا سيما في قضية ملابس المرأة- تجد أنهم لا يكادون يطيقون وجود كاسية بينهم؛ فبين الحين والآخر تنقل لنا الصحف معارك قامت في القرى السياحية حيث توجد نسبة كبيرة من المحاكين للغرب.
وكيف يتشاجرون مع أي امرأة إذا استبدلت لباس البحر بـ"الاستريتش" الذي لا يعد ساترًا إلا إذا قورن بملابس البحر؛ وإلا فهو في واقع الأمر من الملابس الكاشفة الفاضحة!!
ولكن القوم يشعرون بجرح كرامة من أن كل من تستر نفسها بأي درجة من الستر وكأنها تضع أمامهم الحقيقة التي لا يريدون لأنفسهم أن تفيق عليها؛ بل يكرهون أن ينبههم أحد إليها ولو بالسلوك الصامت، ومن هنا كان تصرف قوم لوط وقولهم: (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ)، ومن هنا قالت العرب في أمثالها: "ودت الزانية لو زنت النساء جميعًا".
ولذلك لا يكاد الفرد الغربي يطيق أن يرى الحجاب على الرغم من أنه داخل في حدود الحرية الشخصية التي يزعمون الإيمان بها، والتي يتضح في كل محك أنها حرية الكفر والفسق وفقط، لو أن الغرب لم يكن يرى في الحجاب إلا أنه ستر لصاحبته ربما كان تعامله معه أهون من ذلك، ولكنهم يرون فيه "تعرية" لواقعهم "العاري" أكثر من كونه سترًا لصاحبته.
إن الموقف الغربي من الإسلام عامة ومن الحجاب خاصة موقف عام صنعه الساسة، والإعلام لا يستثني من ذلك إلا قلة من العقلاء ينتهي الأمر بمعظمهم إلى الدخول في الإسلام كما ذكرت بعض الصحف أن الأخت "مروة" -رحمها الله- كانت سببًا في إسلام إحدى صديقاتها؛ ولذلك كان من العجب أن يسارع البعض إلى التطوع بوصف هذا الحادث بالفرديز
مع أن طاقم حراسة المحكمة بأسره كان متواطئًا، ولن أبالغ في نظرية المؤامرة فأقول إنهم كانوا على علم مسبق بالأمر، ولكن يكفي أنهم في قرارة أنفسهم كانوا يرونها تستحق ما حصل لها، أو على الأقل لم يجدوا أن جرم صاحبهم يرقى إلى أن يضرب في يده أو قدمه بطلقة تحجزه أو تمنعه من تقطيع تلك المرأة الضعيفة إربًا.
ولكنهم وجدوا أن الأمر يستدعي أن يضرب زوجها بطلقات كادت تودي بحياته؛ لمنعه من منع الجاني!
فإذا لم يكن ذلك الحادث جماعيًّا يُسأل عنه مجتمع بأسره فمتى يكون جماعيًا إذن؟
ثم هب أن الحادث فرديًّا أفلا ترك ذلك لهم ليعتذروا؛ كما تطالب بلاد المسلمين قاطبة بالاعتذار عن أي حادث مهما كان فرديًّا، وربما دفعت الشعوب الإسلامية ثمن اختيار خاطئ لبعض أبنائها، والذي غالبًا ما يكون خطأ في محاولة رد عدوان، وليس في بدء عدوان؟
على الغرب أن يعترف أن التطرف صناعتهم الأولى، وأن الإرهاب الرسمي والشعبي بضاعتهم المفضلة، وأن هذه الأمور عند المسلمين ليست إلا انعكاسًا لنظيرتها في الغرب، ولم يبقَ أمام بائعي الوهم إلا أن يعتذروا عن الوهم الذي طالما باعوه لنا في صورة الرجل الغربي المسالم؛ الذي ما جاء قديمًا ولا حديثـًا؛ إلا ليعمر بلادنا أو يستعمرها، وإذا ذهبنا عنده استقبلنا بالورود!
فالرجل الغربي لم يأتِ إلينا إلا مستخربًا، وإذا ذهبنا إليه كان شعارهم: "عد إلى وطنك أيها العربي"، أو: "أخرجوا المحجبات من ديارنا"، أو باختصار: "أخرجوا المسلمين من ديارنا إنهم قوم يتطهرون"!!
إلى أن وصل الأمر أن يرسلوا لنا أبناءنا وبناتنا في توابيت!
لقد قـُتلت الأخت "مروة" غدرًا وغيلة، نسأل الله أن ينزلها منازل الشهداء، وأن يجعل دماءها سببًا لانتشار الإسلام والحجاب في أوروبا أكثر، وهو أمر متوقع -بإذن الله-؛ فإن النفسية الأوروبية نفسية "تراجيدية" تستهويها التضحيات، وتعلو الفكرة عندهم بمقدار بذل أصحابها من أجلها، والمسلمون أهل لكل بذل وتضحية.
ولقد أصيب زوجها دفاعًا عنها فقدَّم دليلاً عمليًّا آخر على كرامة المرأة المسلمة على زوجها وأبيها وأخيها إلى الدرجة التي يجعله الشرع فيها شهيدًا إن مات دون عرضه: (وَمَنْ قُتِلَ دُونَ أَهْلِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ) (رواه أبو داود والترمذي، وصححه الألباني).
إن الحجاب الذي يحاول الغرب أن يصوره علامة على استعباد من الرجل لزوجته؛ ليس إلا علامة على أن المرأة المسلمة جوهرة مصونة عند ذويها؛ وإلا فهل يموت أحد فداء عبيده؟! نسأل الله أن يشفيه ويعافيه، ويلهمه الصبر.
إن الجموع المسلمة التي خرجت لجنازة الأخت "مروة"، والتي لم يكن لهم سابق معرفة بها لعنوان على أن المجتمع المسلم ما يزال فيه -بحمد الله- دماء نابضة رغم كل محاولات المسخ والتغريب.
عزاؤنا إلى كل هذه الجموع، وعلى رأسهم أهل الراحلة وذويها: "لله ما أخذ ولله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار، فلتصبروا ولتحتسبوا".
وأخيرًا: فأمة الإسلام هي الأمة المحبة للخير للعالم لا تحمل حقدًا لأحد، وإن عداءنا للكفر والكفار هو لكفرهم وأعمالهم؛ فإذا تركوا ذلك صارت العداوة مودة، حتى ولو كانوا قتلوا منا من قتلوا.
ولذلك فسوف نستمر ندعوهم: إلى الإسلام... إلى التوحيد... إلى العفة... إلى الحجاب... نعاديهم لترك الحق، ويزداد عداؤنا عندما يعتدون على حرماتنا، ويزول كل ذلك عندما يعودون إلى الحق: (عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) (الممتحنة:7).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لقد فرح الكثيرون من المسلمين بهذا "الكرم الأوبامي" من قضية الحجاب، وفاتهم أمران:
الأول: أن من يملك الإذن يملك المنع، ومن ثمَّ فما كان ينبغي أن نرحب بأن يبدي أي أحد موافقته على أمر شرعي على هذا النحو؛ لأننا لم ولن نستأذن أحدًا في طاعة الله.
الثاني: أن "أوباما" إنما أعطى موافقة على الحجاب بشرط: "تعليم المرأة أولاً"؛ ليكون اختيار المرأة نابعًا من داخلها، وهو بذلك يأخذ بالشمال ما أعطاه باليمين؛ لأنه يشترط لكي يأذن للمرأة المسلمة بالحجاب أن تتعلم أولاً، وغني عن الذكر أنه يريد بذلك أن تتعلم المبادئ الغربية التي لن تورث من يتشربها إلا التمرد على شرع الله، وعلى رأسه حجاب المرأة.
(2) يُلاحظ في معظم الأحيان أن النقاب هو خط الهجوم الأول بالنسبة لخصوم الحجاب، وهو بالتالي خط الدفاع الأول بالنسبة لنا، ولو لم يكن للنقاب فضيلة إلا ذلك لكفاه، وهو مما يوجب على دعاة الأمة حتى من يرى منهم استحبابه أن يحرصوا على شيوعه في الأمة.
الكاتب: عبد المنعم الشحات
المصدر: موقع صوت السلف